الأعفان في خدمة الإنسان معجزة حيوية
بهذا العنوان المثير بدأت أول مؤلفاتي العلمية المنشورة المتواضعة, وبهذا العنوان المثير والغريب دخلت مجال الصراعات الإدارية والبيروقراطية العامة والخاصة.
فعندما نشرت العدد الأول من كتابي الأعفان في خدمة الإنسان فوجئت يومها أن الدنيا وقفت من حولي بسبب هذا الكتيب البسيط وأبت أن تقعد, وقفت الدنيا لكي توقف هذا التمرد العلمي, إذ كيف يتسنى لهذا المدرس الجامعي المبتدئ أن يؤلف كتاباً بعد حصوله على الدكتوراه بأشهر قليلة, وبنشره دون أن يستأذن, وفتشوا في الدفاتر القديمة فوجدوا أن هناك قانوناً وضع لضبط العمل العلمي في الجامعة, وهذا القانون لا يجيز للحاصل على الدكتوراه بنشر كتب قبل عامين بالتمام والكمال على حصوله على الدكتوراه, هكذا قيل لي يومها, ويعلم الله أنني ألفت هذا الكتاب للناس خارج القسم قربة لله, وللعاملين بداخله بالمجان.
هذا القانون التنظيمي المتميز في نظري لم ير النور ولم نسمع به من قبل لأن أحداً من الذين سبقوني في قسمنا بالذات لم يؤلف كتاباً خارج المقررات الدراسية بعد حصوله على الدكتوراه حتى يوم صدور كتيب الأعفان في خدمة الإنسان سنة 1987م, وفجأة خرجت نصوص القانون من دفاترها القديمة لكي تحاكمني على هذه الفعلة الشنعاء والحمد لله الذي نجاني منها.
واليوم في بداية عام (2005م) وأنا أُراجع الكتب في مكتبتي وجدت هذا الكتيب البسيط الذي كتب على الآلة الكاتبة العتيقة وطبع وسحب بالاستنسل, وشممت رائحة المذيب والأحبار التي شممتها يومها وهي تنطلق من هذا المكتب البسيط الذي طبعه, وأنا فرح مسرور بهذا المولود الجديد الذي تابعت إعداده وولادته لحظة بلحظه, وكيف لا وهو مولودي الأول, هذا المولود الضعيف الذي ما ظننت وقت طباعته في هذا المكتب المتواضع للآلة الكاتبة أنه سيوقف الدنيا من حولي, وسيقلق البعض, كما أقلق جاليليو رجال الكنيسة في أوروبا عندما حاكموه بقوله أن الأرض تدور, واضطروه إلى التراجع عن هذه الحقيقة العلمية, وبعد خروجه من المحكمة صرخ بالأرض وضربها بقدميه قائلاً لها: قولي لهم أنك تدورين, وظل يتمتم ويقول: ولكنها تدور, ولكنها تدور, ولكنها تدور.
واليوم في نفس مكان طباعة هذا البحث يجثم هذا المطعم لشواء اللحم والدجاج مطلقاً كميات الدهن المحترق وأول اكسيد الكربون السام ليغرق البيوت والأشجار والإنسان والملابس برائحة الشواء ليؤكد تحول مركز التفكير من العقول إلى البطون, في فلسفة تك أوي, في النظام العالمي الجديد.
هذه لقطة من قصتي مع الأعفان في خدمة الإنسان, تلك الأعفان التي قضيت معها أكثر من أحد عشر عاماً في مختبر الكائنات الحية الدقيقة لإنتاج الدهن والبروتين منها في رسالتي الماجستير والدكتوراه (1), وكانت النتائج مذهلة.
فقد أمكنني وزملائي في المختبر استغلال المولاس, وهي مادة متبقية من صناعة السكر, ومادة منقوع الذرة, وهي مادة متبقية من صناعة النشا والخميرة من نبات الذرة, مع استخدام ماء البحر كمصدر للمعادن والأملاح, والحصول على نتائج والحمد لله متميزة حيث أمكن إنتاج :
70% من الوزن الجاف للفطر دهن.
20% من الوزن الجاف للفطر بروتين.
10% من الوزن الجاف للفطر مادة أخرى.
والآن أخي الإنسان ماذا تعرف عن الأعفان ؟
وكيف سخرها الله سبحانه وتعالى لخدمتك ؟
الأعفان (Moulds ) مجموعة من الفطريات مثل الأسبرجيللاس (Aspergillus), والبنسليوم (Penicillium), وعفن الخبز (Rhizopus), والفيوزاريوم (Fusarium), والميوكر (Mucur), والألترناريا (Alternaria) وغيرها.
والفطريات مملكة مستقلة في الممالك الخمس للكائنات الحية حسب التقسيم الخماسي لواتيكر (Whittaker) عام ( 1969م ) (2).
والفطريات كائنات حية دقيقة خالية من اليخضور أو الخضر (Chlorophyll) , ولذلك فهي تعتمد على غيرها في تصنيع الغذاء , فهي غير ذاتية التغذية .
والفطريات موجودة في معظم البيئات الأرضية , وتخالط الانسان في كل مكان فهي معه في مطبخه , وثلاجته , ومخزنه , ومزرعته , ومسكنه , ومدرسته , وحافلته , وحظيرته , وحديقته .... إلى آخره.
وهي تنقسم إلى خمسة أقسام هي : الفطريات التزاوجية (Zygomycota) وهي تتكاثر جنسياً بالتكاثر التزاوجي , والفطريات الزقية (Ascomycota) وهي تتكاثر جنسياً لتعطي الجراثيم الزقية , والفطريات البازيدية أو الصولجانية (Basidiomycota) والتي تعطي الجراثيم على الزوائد البازيدية أو الصولجانية, والجراثيم البيضية (Oomycota) والتي تتكاثر بالتكاثر البيضي , وهناك الفطريات الناقصة ( Deuteromycota ) التي لم نتعرف إلى الآن على نوع التكاثر الجنسي فيها .
البنسيليوم |
(onera) , ومملكة الطلائعيات (Protista) , ومملكة الفطريات (Mycotaأو Fungi) , والمملكة النباتية (Plantae) , والمملكة الحيوانية (Animalia).
وهناك الأعفان اللزجة ( Slim Mould) التي وضعت في مملكة الطلائعيات.
ونحن نرى الأعفان كنموات بيضاء أو سوداء على الطماطم , ونراها زرقاء مخضرة على البرتقال, وسوداء داكنة على الخبز, وخضراء مشوبة بصفرة قليلة على الخبز أيضا. وعندما تترك ربة البيت رغيفاً من الخبز المندى بالماء في المطبخ الدافئ , فإنها تلاحظ ظهور بقع بيضاء صغيرة عليه , وكأنها نقط دقيق, سرعان ما تتسع دائرتها لتكون بقعة بيضاء على هيئة مستعمرات فطرية (Fungalcolonies) والتي تتسع لتغطي مساحة واسعة من سطح الرغيف , ثم تبدأ في الاسوداد تدريجياً ليكون عفن الخبز الأسود الذي يحلل الخبز بإنزيماته , ونفس الشيء يحدث مع البرتقال لتعطي العفن الأخضر اللون.
وتحتوي مملكة الفطريات على أكثر من مئة ألف نوع من الفطريات, ولو أردنا أن نعرض عليك كل أنواع الفطريات المعروفة إلى الآن على شريط مسجل بحيث يبقى كل نوع فطري أمامك خمس دقائق لتتعرف شكله الظاهري فقط فإنك تحتاج إلى سنة كاملة تجلس فيها ليل نهار دون أن يغمض لك فيها جفن حتى تنتهي من هذا العرض الشائق والغريب (3).
ومع أن الفطريات لاتمتلك جهاز تغذية ذاتية كما هو الحال في الطحالب والنبات المحتوية على اليخضور, فإن الله سبحانه وتعالى رزقها بأقوى جهاز انزيمي حيوي في العالم تستطيع به تحليل الأخشاب والجلود, والعظام, والشعر, والمطاط, والبترول, والكربوهيدرات, والدهون, والبروتين, وهي تكنس الأرض وتنظفها بالتعاون مع البكتيريا من أجساد الموتى من الحيوان والإنسان, وهي تحلل النبات الميت, وبقاياه المتساقطة منه وهو حي.
ولذلك يتغذى العفن الفطري على ملايين المواد العضوية كالملابس , والأحذية , والحقائب, وقلف الأشجار, والفلين, وروث البهائم, والمربات, والبقول المعبأة, وصناديق الشحن الخشبية والورقية والفاكهة, واللحوم, والأسماك, والصموغ, والدهانات, والصوف, والشعر , وتعيش على جلد الانسان ومخلفاته.
عفن الخبز على الفاكهه |
وتحتاج الفطريات في تغذيتها إلى المواد الكربوهيدراتية لبناء أجسامها وإنتاج الطاقة, وتحتاج إلى المواد البروتينية أو الأزوتية لبناء سيتوبلازمها وإنتاج الانزيمات , وبعضها يحتاج إلى الفيتامينات , وهي تحتاج أيضاً إلى الماء والمعادن والأملاح في تغذيتها ونموها كباقي الكائنات الحية.
ويمكن زراعة الفطريات وخاصة الأعفان منها على مخلفات المصانع , والأسواق, والحدائق , والمطاعم , والمنازل, والمزارع لإنتاج الأعلاف, والدهن, والبروتين, والفيتامينات , والهرمونات , ومضادات الحيوية , والإنزيمات وغيرها من المنتجات الفطرية.
والفطريات لا تحتاج في زراعتها إلى أرض زراعية, ومساحات واسعة, ولا مجهود شاق, ولا تتحكم فيها عوامل البيئة الحقلية الخارجية أوقلة المياه كاالزراعات التقليدية.
وتستخدم الأعفان في تحسين طعم المواد الغذائية كما هو الحال في الجبن الركفورت (Roquefort ) المحتوي على البنسيليوم , كما تستخدم في انتاج الكومبوست الزراعي, وإنتاج بعض السكريات العديدة ذات الخاصية الهيجروسكوبيه التي تستخدم في الاحتفاظ بالماء في التربة الصحراوية متغلبة على أصعب مشكلة في الأرض الرملية وهي تسرب الماء .
كما يستخدم فطر البنسيليوم و العديد من الفطريات في إنتاج مضادات الحيوية. وتستخدم الفطريات في إنتاج الفيتامينات, والهرمونات, والصموغ من المخلفات الصناعية.
الخبز وجبة دسمة للأعفان |
وفي غرفة واحدة مساحتها 6×6م نستطيع إنتاج حمض ليمونيك (Citricacid) في عام يعادل إنتاج كل أشجار الليمون في العالم في نفس العام .
وفي غرفة مساحتها 6×6م يمكننا استخدام قش الأرز , الذي يمثل كارثة بيئية في بعض البلدان , يمكن استخدامه في زراعة عيش الغراب ( المشروم – Mashroom )ت(4) وانتاج كميات هائلة من هذا الفطر المحتوي (500) طن متري في العام والذي يحتوي على 2.4 % من الوزن الجاف بروتين , 0.3% دهن و 4% كربوهيدرات علاوه على المعادن والأملاح ويسمي البعض هذا الفطر ببروتين الفقراء .
والأمل معقود بإذن الله على استغلال الأعفان وباقي الفطريات في حل مشكلة الغذاء في العالم وبذلك يتحقق قولنا الأعفان في خدمة الانسان وصدق الله العظيم القائل : (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم ) البقرة 29 .
البنسيليوم ينمو بانتظام على الوسط الغذائي |
وقال تعالى: ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ) فصلت 9-10 .
انظر التفاصيل في كتابنا آيات معجزات من القرآن الكريم وعالم النبات والمنشور على شبكة الانترنيت ( موضوع وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام ).
يمكن مراسلة الدكتور نظمي خليل أبو العطا على الإيميل التالي: phy_tech@hotmail.com
(1)- رسالة الماجستير (1979م) بعنوان : إنتاج الدهن بواسطة بعض الفطريات المعزولة محلياً
- ورسالة الدكتوراه بعنوان : دراسات على بعض الأنشطة الأيضية لبعض الفطريات, مع اشاره خاصة إلى الليبيدات ( 1984م) .
(2)- قسم واتيكر سنة ( 1969م) الكائنات الحية إلى خمس ممالك هي مملكة الأوليات
(3)- انظر الأعفان في خدمة الإنسان, نظمي خليل موسى, القاهرة : مكتبة النور.
- وانظر الفطريات والحياة, عبد المحسن صالح , القاهرة : الهيئة المصرية للكتاب.
(4)- المشروم ليس من الأعفان بل من الفطريات البازيدية, التي أعددنا عنها مقالاً خاصاً بعنوان الفطريات البازيدية في خدمة البشرية , وان كان غزله الفطري يقوم بنفس دور الأعفان.
No comments:
Post a Comment